• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النزعة الانطباعية في التفسير

د. عفت محمّد الشرقاوي

النزعة الانطباعية في التفسير

◄من المعروف أنّ النص القرآني قد تداوله بصفة رئيسية بيئتان مختلفتان الأولى هي بيئة العلماء من متكلمين ومناطقة وأصوليين، وأمّا البيئة الثانية فإنّها بيئة المتأدبين الذين يحاولون تناول النص تناولاً أدبياً. ولقد كان هؤلاء في جملتهم قلة يسيرة بعد أن اصطبغت الثقافة الأدبية بالمنطق العقلي، وتحوّلت البلاغة عن ميدانها الجمالي البحت. ومع ذلك فإنّ هذه القلة اليسيرة، كثيراً ما كانت تحيل على مبهم في تحليلها للنص القرآني، كقولهم إنّ الإعجاز لا يدرك، ولا يمكن وصفه. ولقد يكون التحليل الفني الكامل للنص عملاً شاقاً يُستعصى على التحقيق، ولكن لابدّ أن نتفق على أساس نتقي الاعتماد على الإحساس الفردي المباشر في التفسير. صحيح أنّ التذوّق الفردي جانب أساسي في تلقي النص، ولكنّنا إذا أطلقنا العنان لكلّ قارىء، يستبطن ذاته لاستخراج مكنونات النص، فربما ينتهي هذا إلى أن نجد من تفسير النصوص ما يساوي عدد القارئين. ولذلك فإنّ بعض المحدثين الذين عجزوا عن التفريق بين حقيقة النص وبين موقعه على النفس لم يقدّموا لنا تفسيراً للنص، وإنما قدموا تفسيراً لتجربتهم الذاتية في قراءته، لأنّهم لم يزيدوا على ترديد ما يحسونه إزاء النص، وهناك فرق واضح بين إحساسهم بالنص والنص نفسه، لذلك فلقد يكون من الخطر أن ننطلق بوجداننا مترفعين عن كلّ قيد لغوي في تفسير النص. ولكن هذا لا يعني على كلّ حال أن نلغي جانب الاستغراق فيه والشعور به، فهذا جانب أساسي في تفسير أي نص أدبي رفيع، ولكنّه ليس الاستغراق الصوفي التام الذي يتجاهل جانب الجمال الاجتماعي فيه، إنّ شيئاً من التوازن بين الذات والموضوع والتنبّه إلى المقاييس الجمالية الدقيقة مع استشعار التعاطف الوجداني بين النص والمفسر الأدبي قد يقدّم لنا تحليلاً أدبياً مفهوماً له.

على أنّ أملنا في العثور على أُسس جمالية واضحة يكشف بها عن أسرار النص الأدبي، لا يغض بحال من الأحوال من تقديرنا لقيمة التذوّق الأدبي، ولكنّنا لا نميل إلى إعطاء الذوق كلّ هذه القيمة السحرية الغامضة، ليصبح سلاحاً في يد المفسر يستعمله كلّما أعوزه التعليل الجمالي الواضح. إنّنا لا نستطيع أن نوافق مَن يقولون بأنّ المهم في التجربة الجمالية إنما هو "الذات" لا "الموضوع"، وإلّا لصار التأمّل وحده هو الموضوع الرئيسي في علم الجمال كلّه، ولصعب علينا الانتقال من العاطفة التي هي بطبيعتها ذاتية إلى الحكم الجمالي الذي هو بطبيعته كلّي.

ولذلك فإنّ المفسّر القدير هو الذي يستطيع أن يعلو على فرديته ليدرك السر الجمالي في النص، ويعلل تحققه فيه رغم اختلاف الأذواق وتعدد الأمزجة الفنية - ورغم ذلك فإنّ فض أسرار المعاني الجمالية للنص الأدبي العالي قلّما تعرف نهاية، فإنّ جيلاً يمضي وجيلاً يقدّم، والعمل الفني كما هو: موضوع حيّ لا زال يحمل من المعاني ما لا سبيل إلى الإلمام به، أو بالأحرى شخصية عميقة لا زالت تحتمل الكثير من التأويلات.

هذا فيما يتعلق بالنص الأدبي بصفة عامّة، أمّا فيما يتعلّق بالقرآن الكريم فقد مال بعض الباحثين، وخصوصاً ذوي النزعة الصوفية إلى ترجيح جانب التذوّق الذاتي للنص على التحليل الموضوعي له.

فيعتقد الفيلسوف الإيراني المعاصر الدكتور سيِّد حسين نصر مثلاً أنّ للتذوّق الفردي أهميته الكبرى في التفسير لكي يستطيع المفسّر النفاذ إلى المعنى الباطني الكامن في النص الديني، وهذا في رأيه لا يتأتى إلّا إذا نهض له إنسان حاول هو نفسه أن ينفذ إلى أبعاد وجوده الخاص.

ذلك أنّ المرء حين ينظر في أي كتاب مقدس يرى فيه ما يراه في أعماق ذاته، والمعنى الذي يستخرجه من النص يعتمد كثيراً على مكانة المرء وشخصيته.

ويورد الباحث للتدليل على رأيه في هذا الصدد نصاً يتعلق بالمعنى الباطني للقرآن الكريم أورده جلال الدين الرومي في مؤلفه المسمى بالمثنوي، والذي يعد في رأيه تفسيراً للقرآن بالشعر الفارسي. يقول المثنوي ما معناه:

"يشبّه القرآن الكريم عروساً لا تسفر لك عن وجهها، فما عليك إذن إلّا أن تكشف أنت الحجاب عنها. وإذا أمعنت النظر فيه ملياً، ولم تحصل على السعادة: ولا على التكشف الحقيقي، فالسبب في ذلك أنّ كشفك الغطاء كان فيه صد من قبل العروس..".

كذلك القرآن يجلو نفسه للإنسان بالشكل الذي يريد. لكنّك لن ترفع عنه الحجاب، إلّا إذا سعيت للتمتع به، والغوص على مكنون معانيه، كي تنهل من ينابيع المعرفة ما فيه شفاء لصدرك، فإنّه لا يلبث أن يسفر لك عن وجهه. وإن لم تزح أنت الحجاب عنه".

ومهما يكن من رأي في أمر هذا التشبيه الخاص الذي يرتبط بذوق الشاعرية الصوفية في إيران، فإنّ الدكتور نصر يريد أن يؤكد دور الذوق الذاتي في الكشف عن أعماق النص الديني، فنحن لا نستطيع - في رأيه - النفاذ إلى المعنى الباطني للقرآن الكريم، قبل أن نتمكن من النفاذ إلى أعماق أبعاد كياننا، أو قبل أن تحلّ علينا بركة السماء.

ذلك أنّنا "إذا التمسنا معنى القرآن الكريم سطحياً، وإذا كنّا نحن على كثير من السذاجة بحيث نطوف على سطح كياننا ووجودنا غير مدركين كُنه أغوار جذورنا، عندها يبدو لنا القرآن الكريم، كتاباً ذا معنى سطحي. فهو، والحالة هذه، يخفى عنا أسراره فلا نستطيع النفاذ إلى أعماقها. ولا يتأتى للمرء أن ينفذ إلى أعماق المعنى الباطني للنص المقدس إلّا بجهد روحي مضنٍ عبر التفسير الذي يُدعى التأويل، أي إيجاد المعنى الرمزي".

هكذا يميل بعض الباحثين ذوي النزعة الصوفية وغيرها إلى ترجيح العنصر الذاتي حتى تنفسح أمام المفسر تأويلات باطنية يراها بعضهم جوهرية وأساسية لفهم أعماق النص. ومع ذلك فإنّنا ندعي أنّ التوازن بين حقيقة النص وموقعه على النفس مطلوب حتى لا ينطلق المتأولون بوجدانهم الخاص مترفعين عن كلّ قيد لغوي يرتبط بقواعد الكلام العربي من جهة، أو تاريخي يتعلّق بمناسبات النزول من جهة أخرى، فإنّ هذا وذاك مما ينبغي أن يلم به المفسّر ويرتبط به في فهم النص.

ترى هما قرآنان؟ قرآن الطفولة العذب الميسر المشوق، وقرآن الشباب العسر المعقد الممزق؟ أم إنّها جناية الطريقة المتبعة في التفسير؟.

هذا الاعتداد المبهم بالذوق - ولو كان ذوق الصغير - بداية حقيقية في تفكير مؤلف كتاب "التصوير الفني في القرآن" ولذلك نجده يقرأ القرآن معتمداً على ذوقه الخاص في التفسير ليجد قرآنه الجميل الحبيب ويجد صوره المشوّقة اللذيذة، بعد أن تغيّر فهمه لها وبقي سحرها وجاذبيتها... وبهذه المجاهدة الخاصّة في التذوّق الفردي للنص القرآني وجد المؤلف القرآن كما يقول.

ثم يأخذ المؤلف في تأكيد الجانب التأثيري من القرآن فيبيّن كيف سحرَ القرآن العرب منذ اللحظة الأولى سواء منهم في ذلك من شرح الله صدره للإسلام ومَن جعل على بصره منهم غشاوة. ولعلّ ما حكاه القرآن عن قول بعض الكفار: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت/ 26) دليل على الذعر الذي كان يضطرب في نفوسهم من تأثير هذا القرآن فيهم وفي أتباعهم وشبيه بهذا وصف النصارى بأنّ أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحقّ، ووصف المؤمنين بأنّهم تقشعر منه جلودهم وأنّهم يخرون للأذقان يبكون... إلخ.

مثل هذه الحقائق يعرضها المؤلف ليؤكد أنّ القرآن قد استحوذ على العرب ويتساءل عن منبع هذا السحر في القرآن غير التشريع المحكم، وغير النبوءة الغيبية، وغير العلوم الكونية، لأنّ قليل القرآن الذي كان في أيام الدعوة الأولى كان مجرداً من هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد، وكان مع ذلك محتوياً على هذا النبع الأصيل الذي تذوّقه العرب فقالوا (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (المدثر/ 24)، وفي عرض موجز للنشاط التفسيري يحاول المؤلف أن يؤكّد أنّ الباحثين في الإعجاز القرآني كانوا يقفون عند خصائص النصوص المفردة، حيث استطاعوا إدراك مواضع الجمال متفرقة، ولكنهم لم يستطيعوا إدراك الخصائص العامّة، وبذلك ظلّ أهم مزايا القرآن الفنية مغفلاً خافياً، وأصبح من الضروري - لدراسة هذا الكتاب المعجز - منهج للدراسة جديد يتناول البحث عن الأصول العامّة للجمال الفني فيه وهو المنهج الذي يقترحه المؤلف والذي يتناول دراسة التصوير الفني للقرآن، وخلاصة رأي المؤلف في التصوير الفني أنّ القرآن يعبّر بالصورة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة.

والتصوير الفني في القرآن يتم باللون والحركة والتخييل والنغمة، وكثيراً ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات، ونغم العبارات وموسيقا السياق، في إبراز صورة من الصور تتملأها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان.

وفي كلام المؤلف مشابه من أقوال الأقدمين في وظيفة التشبيه في توضيح المعنى وتقريره في ذهن السامع، وهو رأي جدير بالنظر والمراجعة، فليست قيمة التشبيه الرائع والاستعارة البليغة ترجع إلى ما يثيره التشبيه أو الاستعارة من صور حسية كما زعم، وإنما ترجع قيمة التشبيه، وهو عمود التعبير الفني إلى أنّه مزاوجة بين معنيين، أي إلى أنّه يريك في الشيء شيئاً آخر فيبرز ذلك معنى كان خافياً عليك، وهو تأليف واختراع في المعاني والمشاعر، وآية ذلك أن تحسّ اللفظ المستعار حين تعرضه على ذوقك ووجدانك شيئاً غير المستعار منه، أو المستعار له، كما يقول الدكتور شكري عياد. والمؤلف في سبيل تقرير غايته في التوضيح يتجاوز أحياناً إلى استبطان مشاعره الخاصّة فيما تثيره بعض الألفاظ بمدلولها أو بجرسها أو بائتلاف نغمها من الصور الحسية المبصرة بالعين أو المسموعة بالأذن، وهي أحكام تقوم على تلقي فردي قد لا نلتقي عندها جميعاً.

صحيح أنّ لتجسيم المعنى أثراً ما في توضيحه وتقريبه إلى ذهن السامع، ولكن هل نظن أنّ الإيضاح سبيل التأثير دائماً؟ أليس من الجائز أن يعمد النص إلى غموض ما إثارة للوجدان وحثاً على التأمّل؟ الحقّ أنّ المشبه به قد يكون خيالياً، كقوله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) (الصافات/ 65) وهي صورة مرعبة تنطلق في تصوّرها النفس كلّ مذهب. وفضلاً عن ذلك فإنّ الألفاظ ليست مُحاكاة للواقع الخارجي كما زعم المؤلف فنحن لا نستطيع أن نساير رأيه في دلالة اللفظ على رسم الصورة الشاخصة بمجرد جرسه الذي يلقيه في الأذن، وقد يستشعر بعضنا في كلمة "اثاقلتم" ما يتصوّره المؤلف من ذلك الجسم المتثاقل يرفعه الرافعون في جهة، فيسقط من أيديهم في ثقل، بل قد نحسّ أنّ في هذه الكلمة طناً من الأثقال كما يقول، ولكنّنا لا نستطيع أن نرجع إلى ذلك الجرس وحده - وننطلق معه لنتصوّر التبطئة في جرس اللفظ "ليبطئن"، والإدماج والإكراه في جرس "أنلزمكموها" وتخلط الصراخ المختلط المتجاوب من كلّ مكان في جرس "يصطرخون" والتنطع الغليظ الجافي في جرس "عتل"، ولا الصورة الحركية للزحزحة في جرس كلمة "بمزحزحه" إلى آخر الألفاظ التي يريد المؤلف أن يستوحي جرسها كلّ دلالة على تصوير المعنى.

لا نستطيع أن ننطلق مع المؤلف في استيحاء الجرس كلّ دلالة اللفظ، لأنّ الألفاظ، كما يقول الدكتور شكري عياد، وإن لم تخل من محاكاة للواقع الخارجي الملموس ليست صورة مطابقة لذلك الواقع، بل هي في مجموعها ردود أفعال له، فإذا ذهبنا نلتمس رابطة مطردة بين جرس اللفظ ومدلوله ضللنا في مطاوي النفس البشرية، ولم نهتدِ إلى أصل يعتمد عليه في تقرير هذه الرابطة، ما هي، وما قوانينها التي تضبطها. والأديب مثلاً حين يستخدم الألفاظ للتعبير عن معناه يعتمد على ارتباطاتها الوجدانية في ذهن السامع ولا يعتمد بالضرورة على ما تثيره من صور حسية. إنّ الألفاظ تفهم بما يرتبط في ذهن قائلها، أو سامعها من تجارب نفسية، أكثر مما تفهم بصورها الحسية فلفظة الموت شديدة الإيحاء عميقة الأثر، وقوتها ليست راجعة إلى ما ترسم من صورة أو صور حسية، بل إلى مالها من ارتباطات وجدانية.

وهكذا نرى أنّ واسطة الحس غير موجودة في الألفاظ دائماً، وأنّ الألفاظ قد تتصف بالإثارة الوجدانية دون ما تصوير حسي. ويبدو أنّ المؤلف يعتقد أنّ الأصل في العبارة أن تدل على المعنى مجرداً، وأن تجسيمها للحس هو عمل الأديب الفنان ولذلك فإنّه يرجع روعة التشبيه في قوله تعالى: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة/ 4-5) إلى أنّ التعبيرين لا يضعان أمامنا المعاني مجردة بل الصور الحسية للفراش في ضعفه وانتشاره، وأخرى للصوف في انتشاره، وهو فهم يقوم على ما كانت تقف عنده البلاغة المدرسية من ملاحظة وجه الشبه، وهو في التشبيه الأوّل الضعف والانتشار، وفي الثاني انعدام التماسك، مع أنّ روعة التشبيه الأوّل "تقوم على ما يقدم من صورة جديدة للناس عند فزعهم وتهافتهم وهي صورة تثير في النفس شيئاً من الأسى وتبصر بمعانٍ للإنسانية ما رأتها من قبل. وكذلك التشبيه الثاني حيث تشبه الجبال بالعهن المنفوش، فالأحاسيس المختلفة يأتلف منها إحساس جديد بالقدرة البالغة التي تحيل هذه المادّة القوية مادّة لا تماسك فيها ولا صلابة". فإذا لاحظنا أنّ هذه الآيات قد نزلت في فجر الدعوة حين بلغت صلابة الكافرين في مقاومة الدعوة مبلغها، أدركنا قيمة الإيحاء المعجز فيها، ذلك الإيحاء الذي يؤكد انهيار أعظم الكائنات تماسكاً، فيدعو النفس إلى مراجعة ويثير فيها الإحساس بتهديد الفناء والانهيار، ويمزّق فيها الجمود والعناد والإصرار على الكفر، بتأكيد انهيار هؤلاء المعاندين الذين تحجبهم صلابة وتماسك واعتداد عن الخضوع للحقّ والذين سيكونون غاية في الضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كلّ جانب.

فإذا انتقلنا إلى كلام المؤلف عن الإيقاع الموسيقي في القرآن رأيناه يؤكد أنّ في القرآن إيقاعاً موسيقياً متعدّد الأنواع، يتناسق مع المعنى، ويؤدي وظيفة أساسية في البيان، وحقيقة يدركها القارىء، ولكن تعليلها يبدو عسيراً. ولا نستطيع أن نحتكم فيه إلى ذوق المؤلف وحده فنتصوّر أنّ الموسيقى في قوله تعالى: (مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا) (آل عمران/ 191) موسيقى دعاء متموجة رخية طويلة خاشعة، نظن أنّ الموسيقى في قوله تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) (هود/ 42) هي موسيقى الطوفان وأنّ التكوين الموسيقي للجملة فيها يزيد على التموج السابق العمق والسعة، وفيه كذلك هول وشجى، "وأنّ التكوين الموسيقي للجملة يذهب طولاً وعرضاً في عمق وارتفاع ليشترك في رسم الهول العريض العميق، وأنّ المدات المتوالية المتنوعة في التكوين اللفظي للآية تساعد في إكمال الإيقاع وتكوينه، واتساقه مع جوّ المشهد الرهيب العميق". وربما لا يحسّ البعض في قوله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30) تلك الموسيقا الرضية المتماوجة التي تشبه الموجة الرخية في ارتفاعها لقمتها وانبساطها إلى نهايتها في هدوء واطمئنان، كما أحسّ المؤلف نعم، قد يوافق بعضنا المؤلف في تذوّقه لموسيقا هذه النصوص، ولكنّنا لا نستطيع أن نسمي هذا التذوّق الفردي تحليلاً أدبياً للنص، ما دام المؤلف يطلق العنان لذاته في استبطان هذه الموسيقا، حتى لا ينتهي بنا الأمر إلى أن نجد من التفسيرات الموسيقية للنص ما يساوي عدد القارئين.. إنّ المؤلف في هذه الملاحظات إنما يكتب عن موقع النص في نفسه ولا يكتب في تحليل النص نفسه، فهو بذلك يقدم تفسيراً لذاته، ولا يقدم تفسيراً للنص.

وقد أخذنا على صاحب التصوير الفني أنّه، مع اعترافه بأنّ اللفظة تأتي لتؤدي معنى في السياق وتؤدي تناسباً في الإيقاع دون أن يطغى هذا على ذلك، أو يخضع النظم للضرورات، يعود فيؤكد أنّه قد يعدل عن الصورة القياسية للكلمة إلى صورة خاصّة حرصاً على موسيقا الفاصلة. ولكن المؤلف يصادف توفيقاً محققاً حين يرجع إلى فكرته الأولى عن الفاصلة القرآنية، فيلاحظ مثلاً التناسق الفني والديني في الفاصلة في قوله تعالى: (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء/ 21) فحرف الفاصلة هو النون وقبلها مد، يتمشى موسيقيا مع الإيقاع السائد في السورة بعكس لو قيل وجعلني رسولاً، ولكنّه مع هذا يؤدي معنى مقصوداً، وهو أنّه واحد من كثيرين وأنّ الأمر ليس بفذ، ولا عجيب، ولا شك أنّ باحثاً مدققاً لو توفر على جمع الظواهر غير القياسية التي وردت في القرآن، واجتهد في تأويل معناها على أُسس فنية ونفسية واضحة، فإنّه يقدم جهداً جديداً في تفسير هذه الظواهر التي اكتفى فيها كثيرون بمجرد رعاية الشكل والتوازن والإيقاع. ولعلّ من خير المحاولات في هذا الصدد ما كتبه الأستاذ السباعي بيومي مؤكداً أنّ القرآن يمهّد للفاصلة بمعنى آيتها تمهيداً تقع به مستقرة في مقرها، وتأتي متعلّقاً معنى الكلام بمدلولها، مقدماً النماذج الدالة على ذلك، ولكنّه يلاحظ أنّ ظاهر الفاصلة قد يفيد عدم ملاءمتها للآية مؤكداً أنّ تدبُّراً قليلاً في المعنى يدفع هذا الظاهر ويكشف عن ملاءمة وثيقة الصلة شديدة الارتباط، ولذلك فإنّ في القرآن فواصل كثيرة كانت الآية تمهّد لها فوق تمهيد المعنى بالألفاظ أو يلازم معنى الألفاظ، وقد يتصرّف القرآن في تهيئة التراكيب للفاصلة تصرّفاً واسع المدى ولكنّه مع ذلك يظل محتفظاً أيما احتفاظ بتبعية اللفظ للمعنى.

على أنّ استقراء واضحاً لطبيعة الفاصلة في القرآن المجيد يكشف عن خصائص مميزة للمكي منها والمدني، من حيث بناؤها النحوي الخالص، فعلى حين تشكل الفاصلة المكية عنصراً أساسياً من النسج النحوي للجملة المكية، نجد الفاصلة المدنية تبدو تذييلاً تقريرياً خالصاً مستقلاً ببنائه النحوي.

ولعلّ من أسرار الإعجاز القرآني في الجملة المكية أنّها تعتمد على مراعاة التوازن. وهذا التوازن يتخذ أوصافاً كثيرة فطوراً تقوم الجمل فيه على القصر والتلاحق، وطوراً يكتفي فيه بمعنى من الازدواج الفكري، ولكن يحتفظ فيه بالتوازن الصوتي والازدواج الفكري الذي يقوم على المقابلة بين الأفكار وقد يضمّ إلى ذلك مقابلة بين الأصوات، وإذا كان كلّ جانب من جوانب اللغة يجب أن يتلوّن بلون مجاله، فقد اقتضى الإعجاز العظيم أن يكون الإيجاز في الجملة المكية قرين بساطة الرسالة في طورها الأوّل، وقرين الاعتماد على محاجة النفس للنفس مما كان مطلوباً في هذا الطور من تاريخ الدعوة. كذلك يحتاج إلى هذا الاختصاص في معرض الإشارة السريعة إلى مجملات فصّلت مع الزمن في الجملة المدنية ذات المتعلقات والإضافات. من أجل ذلك كانت الفاصلة المكية عنصراً أساسياً من النسج النحوي للجملة المكية، على حين صارت في الجملة المدنية تذييلاً تقريرياً مستقلاً ببنائه النحوي، وقد يكون في هذا ما ينطوي على رمز الاستقرار والحماية والتنظيم الذي أظل المؤمنين في بيئة المدينة.

لا يعثر الباحث على نماذج كثيرة في جهود المفسّرين المحدثين تتخذ التذوّق وحده رائداً في التفسير، ولكن محاولة محدثة للدكتور محمّد كامل حسين في كتابه "متنوّعات" تصوّر اتجاهاً مماثلاً إلى حد ما، يبدو ذلك حين يحاول المؤلف تعليل النجاح الذي لقيه تعبر "الله أكبر" في العربية، فهو في رأيه تعبير عن أعمق ما في طبيعة البلاد العربية والعقلية العربية والبيئة الصحراوية: "فهذا التعبير لا يخطر إلّا لقوم لا يحجب نظرهم شيء فهم يجيلون الطرف فيلمون بكلّ ما دون الأُفق، وهم يعلمون أنّ وراء الأُفق مثل ما دونه، وأنّه حين يقول أكبر فلا حاجة به إلى التحديد... هذا التعبير "الله أكبر" الذي يحسّ معه الإنسان بالمدى الواسع والأفق الممتد، والصحراوات الشاسعة لم يكن ليتفق إلّا للعرب وهو يعبر عن عقليتهم وطباعهم بأكثر من المعنى العادي للألفاظ.

وتبدو نزعة المؤلف التأثرية أيضاً حين يحاول أن يربط بين القرآن والروح العربي "فأهم ما في القرآن ينحصر في الغاية، والاتجاه إليها، والعربي لا يخطىء الاتجاه مهما التوى به الطريق. كذلك القرآن غايته تمجيد الله وحده وكلّ ما فيه يدعو إلى ذلك، ومهما تعددت العبارات واختلفت المعاني فإنّ الاتجاه يظل واحداً، ولا تمرّ إلّا آيات قليلة حتى يعود الكلام إلى الاتجاه العام الأوّل وهو تمجيد الله".

كذلك يحاول المؤلف أن يجعل من التكرار تعبيراً عن صفة عربية فيقول: "وأسلوب القرآن كلّه يقوم على آيات مفصّلات يكثر تكرارها، ولا يملها إلّا غير العربي وتعبّر عن طبيعة الصحراء تعبيراً تاماً".

"أمّا تفسيره للسجع من خلال الروح العربية فإنّه يقوم على ملاحظة أنّ تقطيع الكلام قطعاً، تنتهي بمعالم معينة صورة من صور انعكاس طبيعة الصحراء في حياة أهلها العقلية" فالسجع عنده تعبير عجيب عن هذه الصفة في الصحراء، وعن تمثلهم بروحها... "ولكنّنا لا نلبث أن نجد وسط هذه الصحراء آيات تختلف عنها اختلافاً تاماً، آيات تقصّ فيها قصص الأنبياء... هذه الآيات عندي بمثابة الواحات في الصحراء، وهي بديعة في ذاتها".

وأكثر من ذلك فإنّ القرآن في رأي المؤلف يمثل روح الصحراء الزمني أيضاً، فإذا كانت السرعة شيئاً غير طبيعي في الصحراء، فإنّ القرآن إذا أردت أن تفهمه يجب أن تسمعه مُرتلاً ترتيلاً بطيئاً، وإذا قرأه القارىء مسرعاً كما يقرأ غيره، فقد من جماله الشيء الكثير، وباختصار فإنّ روح الصحراء في رأيه ممثلة في القرآن وهو سرّ أثره في أهلها، فعندما يراد رسم صورة خاصّة في القرآن نرى أنّ الصورة تشعرك بالأفق الواسع والهواء الطلق وانظر في ذلك إلى صورة انتهاء الطوفان، (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) (هود/ 44) فأمّا سورة القمر ففيها تتمثل صرامة الصحراء وشدتها، وأمّا سورة الرحمن فإنّ المؤلف يشعر حين تتلى عليه كأنّه في وادٍ ممتد مستطيل تحفّ به الأشجار من الجانبين منسقة كأنّها النخيل في انتظام تام لا يحسبه يتفق بغير تخيل وادٍ خصب به طراوة ونعيم.

هذا الفهم الذاتي للنص لا يكاد يقدّم مقاييس جمالية دقيقة نستطيع الاحتكام إليها؛ فالمؤلف يعطي ذوقه هنا، هذه القيمة السحرية الغامضة ليصبح سلاحاً في يده كلّما أعوزه التعليل الجمالي الواضح. والنص بين يديه لا يمتد إعجازه إلى ما وراء الصحراء والحياة البدوية، وهو كلام فيه نظر ولا سيما كلامه في السجع وعلاقته بالصحراء.

ومن الحقّ أنّ المباحث التي فسّرت السجع في العربية أو في القرآن لم تتجاوز الحدود الشكلية لتفسيره، فهو عندهم نوع من الأداء اللفظي عرف قديماً، والتزمه الكُهّان خصوصاً اهتماماً بجرس الألفاظ وزينتها، ووزن موسيقاها للتأثير في نفوس العامّة من العرب، لأنّ ما فيه من خصائص لفظية كان من شأنه أن يرفع البواعث الانفعالية في الكلام فوق المستوى العادي، وقد أحسن الدكتور محمّد كامل حسين حين لم يأخذ ببساطة التوازن البدائي، ولكنّه وقف بالسجع عند الحياة البدوية، وكاد ينفيه عن كلّ آداب العالم، مع أنّ السجع لون من التعبير عن الموازنة المطلوبة في الحياة الدينية، ولذلك فقد تعلقت به كلّ الرسالات صادقة أو كاذبة، وليست فواصل السجع إلّا نوعاً من التوقف الظاهري النافذ يسعفه توازن هو روح التدين، وبهذا الاعتبار وحده يجوز أن نفسر دون تمحّل إطراده في أقوال الكُهّان وحكم الحكماء وأمثالهم في العربية وغيرها.►

ارسال التعليق

Top